الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ}.حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه، فقد روي أنه احتبس عنه صلى الله عليه وسلم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون: إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسلام: «يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست» وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي.وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السلام تثبيتًا له صلى الله عليه وسلم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الإخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وإن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفًا له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] وفيه انك لا ينبغي أن تكثرت بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيدًا، وعطف عليه مقالة الكفار بيانًا لتباين ما بين المقالتين ومعا عليه الملك المعصوم وازنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ}» لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضًا واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل: يجوز أن يكون النزول متكررًا نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.وقال بعضهم: إن التقدير هذا، وقال جبريل: وما نتنزل.. إلخ. وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا محصل له.وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السلام أولًا {إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} [مريم: 19] وهو قول نازل عن درجة القبول جدًا، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقًا كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله:
إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر، والمعنى ما نتنزل وقتًا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه، وقرأ الأعرج {وما يتنزل} بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل: إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلًا: بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل: إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلًا: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} ما قدامنا من الزمان المستقبل {وَمَا خَلْفَنَا} من الزمان الماضي {وَمَا بَيْنَ ذلك} المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل، وقال ابن جريج: ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مذة الحياة، وقال أبو العالية: ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان، وقال الأخفش: ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فلما آت على هذه الأقوال من الزمان.وقال صاحب الفنيان: ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل: ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل: ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالما آت من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.وقال البغوي: المراد له علم ما بين أيدينا.. إلخ. أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى. واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكًا وعلمًا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي تاركًا أنبياءه عليهم السلام ويدخل صلى الله عليه وسلم في ذلك دخولًا أوليًا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل: النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لاحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإِنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جلشأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع أن الأول هو الأوفق لسبب النزول.ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيرًا ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافًا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه صلى الله عليه وسلم والاشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم وابن بحر: أول الآية إلى {وَمَا بَيْنَ ذلك} من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} تقرير من جهته تعالى لقولم أي وما كان سبحانه تاركًا لثواب العاملين أو ما كان ناسيًا لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر خلاف الظاهر.وأيضًا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدًا لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا {وما كان ربك نسيا} إذ لم يقل ربهم. وأيضًا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض.وقوله تعالى: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته، و{رب} خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات.. إلخ. أو بدل من {رَبَّكَ} في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] والفاء في قوله سبحانه: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسلام أو غير ناس لأعمال العاملين، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الالة فاعبده.. إلخ. فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بابطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة.وجوز أبو البقاء أن يكون {رَبّ السموات} مبتدأ والخبر {فاعبده} والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما رأى. وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون {رَبّ} خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الابدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه: {فاعبده}.. إلخ. عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا بلا شك، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم كما في الكشف فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى: {واصطبر عليها} [طه: 132] لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز: اصطبر لقرنك أي أثبت له فيما يورد عليك من شداته، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة وأصله الشريك في الاسم، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة، وقال ابن عطية: السمى على هذا بمعنى المسامى والمضاهي، وأبقاه بعضهم على الأصل، واستظهر أن يراد هاهنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السموات والأرض، وقيل: المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا، وقيل: المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا؛ وقيل: هو الشريك في اسم الاله، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك قال: السمى الولد وأنشد له قول الشاعر: وروي ذلك أيضًا عن الضحاك، وأيًا ما كان فالمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده، والجملة تقرير لوجوب عبادته عز وجل وإن اختلف الاعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر.وقرأ الاخوان، وهشام، وعلي بن نصر، وهارون كلاهما عن أبي عمرو، والحسن، والأعمش والأعمش وعيسى، وابن محيصن {هتعلم} بادغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي: اهـ.
|